Translate

Wednesday, June 25, 2014

حكاية مصطفى فروخ من البسطا التحتا إلى المدينة الخالدة

رؤوف قبيسي
21 حزيران 2014
"قل معي يا إبني: محمد رسولنا خير الأنام، سلام الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من اتبع الهدى". يردد الطفل الحالم كلمات أبيه، وقد أخفى وراء ظهره ورقة كان قد رسم عليها رأس حمار. يعود الوالد الذي لم تنطل عليه حيلة صغيره البالغ من العمر خمس سنوات ويقول له: "كم مرة قلت لك أن تبتعد عن الرسوم يا مصطفى؟ التصوير حرام يا إبني، إثم يلهيك عن فروضك ودروسك، وكتاب الله في قلبك"!
رحل الأب إلى العالم الأخر بعد عام، تاركاً زوجة وثلاثة أولاد، صغيرهم مصطفى، لكن طيفه بقي يلاحق طفله الأصغر، وبقيت كلماته محفورة في وجدانه. كلمات كالوصية، تدعوه إلى هجر التصوير، لا يتذكرها الصبي إلا وتسرب الحزن إلى قلبه، وأحس بشيء من حسرة وندم.
في يوم ممطر استوقف أحد رجال الدين الصبي في الطريق قائلاً له: "سمعت يا مصطفى أنك تصطنع الرسوم. ألا تعلم أن التصوير كفر يودي بك إلى جهنم؟ الوجوه من صنع الله، فلا تقلد الله في صنيعه. لا تكن كالزنادقة والملحدين، وأصحاب الطقوس الغريبة"!
لم ينم الصبي ذلك اليوم. دارت في رأسه الحمّى، وأمضّه سهاد شديد. مكث الليل كله يفكر في قول الشيخ متسائلاً: "إذا كان التصوير حراماً، فلم الرسوم العظيمة المعلقة على جدران متاحف الدنيا إذاً؟ أتكون حقاً فعل شياطين؟".
* * *
كان يذهب كل صباح إلى مدرسة الشيخ جمعة، رجل أسود يدير مع والدته السوداء، مدرسة يسمونها "الكتاب" غير بعيدة من بيت الصبي في البسطا التحتا، يتعلم فيها الأطفال مبادئ العربية وآيات من القران. كان أتراب الصبي يتحلقون حوله معجبين بما يخطّه قلمه على الورق من أشكال ورسوم. لكنه بعدما سمع تحذير الشيخ له، ساوره خوف وساورته ظنون فتوقف عن التصوير، لكنه لم يتوقف عن السؤال: "إذا كان أهل الفن هم وقود الجحيم حقاً، فمن هم الخالدون إذاً، أصحاب الجنة الذين جاء ذكرهم في القران؟".
كان ينام على الأرض، في غرفة صغيرة من بيت مسقوف بالقرميد، كمعظم بيوت بيروت العتيقة، بناء قديم في شارع ضيق "نخر الدهر حجارته الرملية وأتى على نوافذه العتيقة". بخلاف رفاقه في "الكتاب" كان الصبي هادئاً وانطوائياً، وعندما كان أولاد الحي في أيام العطل يلعبون ويملأون الحي بصراخهم، كان ينزوي في بيته المتواضع مع أوراقه وأقلامه.
حسبته أمه شاذاً، وكان موقفها من رسومه أشد قسوة من موقف أبيه، وكثيراً ما طلبت منه أن يقلع عن التصوير. نهرته مرة، ساعة رأته في زاوية من الدار، وأمامه ورقة صوّر عليها وجوهاً وأشجاراً وأرانب. مرة أخرى زجرته وأخذت من بين يديه صندوقه الصغير، الذي يحوي أقلامه وأوراقه، ورمته على الدرج. بكى الصبي وقال لأمه: "لماذا تمزقين رسومي وتكسرين أقلامي يا أمي؟ أقبّل يديك، وأتوسل إليك أن تتركي رسومي، فأنا أحبها كثيراً مثلك يا أمي".
مذ كان في الرابعة، كل ما حوله كان يحول بينه وبين التصوير: أبوه وأمه، وذلك الشيخ المعمم الذي صادفه في الطريق، والمشايخ الذين كانوا يقولون له إن الله سيحرقه بنار جهنم. صارت هذه الكلمات تقرع أذنيه كالرعد، إلى أن جاء اليوم الذي بدأ الخوف يساوره من عقاب السماء!
* * *
شاءت الظروف أن ينتقل الصبي إلى مدرسة جديدة، يشرف عليها معلم ذو ثقافة أجنبية اسمه طاهر التنير. وكما يشع الضوء في العتمة، يحدث للصبي في مدرسته الجديدة حادث يغيّر مجرى حياته، ذلك أن شيخاً جليلاً معمماً، صادفه في المدرسة وسأله عن حاله مع التصوير، فأخبره الصبي بأنه توقف عنه "خوفاً في الآخرة من عذاب أليم، ونار أعِدّت خصيصاً لأهل الفن"!
ما إن سمع الشيخ المعمم، كلام الصبي، حتى انفجر ضحكاً، وطمأنه إلى أنه سيقوم بـ"مداخلة" مع رب العالمين ليغفر لأهل الأدب والفن إلى يوم الدين! كان الرجل المعمم شيخاً سمحاً، ذكي القلب والفؤاد، قاضياً وأديباً وأحد علماء اللغة في زمانه، وكان إسمه الشيخ مصطفى الغلاييني!
لا يذكر الصبي أنه نام ملء جفونه، واطمأن قلبه، كما نام واطمأن في ذلك اليوم. أحس بأنه مدين لذلك الشيخ الجليل. وهو لا يذكر أيضاً، وبعد أن تقدم به العمر، أنه سعد بعمل فني كما سعد بتلك اللوحة التي صوّر فيها سميّه الشيخ. تمر السنون، فإذا تلك اللوحة الأثيرة على قلب مبدعها تـأخذ مكانها اللائق بها على جدار دار الكتب الوطنية، إلى جانب صور وجوه أخرى من أهل الفن والأدب، صنعوا للوطن الصغير نهضته الأدبية والفكرية.
شاءت الظروف أيضاً أن يصدر طاهر التنير مجلة "المصور" ويكلف الصبي رسوماً للمجلة، ويعرفه إلى رئيس الجامعة الأميركية هوارد بلس، الذي يعجب بمواهب البيروتي الصغير، ويدعوه للالتحاق بكلية الجامعة مجاناً. رفضت والدة الصبي وأخوه الأكبر، إرساله إلى الكلية الأميركية، وأرسلاه إلى "المدرسة العثمانية" التي كان يديرها الشيخ أحمد عباس الأزهري.
كان طاهر التنير يتوقع للصبي الصغير مستقبلاً باهراً في عالم الفن، فعرّفه إلى مصوّر فوتوغرافي ألماني اسمه جول لند، يملك محلاً للتصوير في الزيتونة، تحولت ملكيته في ما بعد إلى لبناني من عائلة دقوني. كان لهذا المصور ابنة شابة تحسن الرسم إسمها كاترينا، تولت رعايته وتنمية مواهبه الفنية. كان يختلف إلى محل لند كثير من العائلات البيروتية، فتعرف الصبي إلى عدد من "وجهاء" المدينة، مثل أحمد مختار بيهم، بشير الداعوق، ورشيد بيضون، وأبو علي سلام، والد صائب سلام. أعجب هؤلاء بمواهب الصبي فكلفوه تصويرهم، وتصوير أفراد عائلاتهم، ودفعوا له الدراهم المجيدية، التي لم يكن يحلم بها صبي فقير.
في العام 1917 سمع عزمي بك، والي بيروت العثماني، بالصبي الموهوب البالغ 12 سنة، فدعاه إلى عمل رسمين، واحد لوزير الحربية التركي أنور باشا، وأخر لجمال باشا، القائد العام للجيش التركي اللذين كانا في زيارة لبيروت. بدأ الصبي العمل ليلا ونهارأ وأنجز الرسمين. دعاه عزمي باشا إلى حفلة سهر في فندق "كاسمن" في باب ادريس، وعرّفه إلى أنور باشا، وجمال باشا، فأعجبا بالرسوم. ربت جمال باشا كتف الفنان الصغير: "عفارم، عفارم"، فيما سأله أنور باشا عن إسم أبيه وإسم أمه وصنعة أبيه، وما إذا كان يحب الذهاب إلى ألمانيا لدراسة الفنون. أجاب الصبي أنه يريد أن يستفتي أمه بذلك. علم الشيخ أحمد عباس الأزهري بالأمر، فنصح أم الصبي بعدم إرسال ابنها إلى ألمانيا بسبب الحرب.
نشرت صحف بيروت الرسوم وخبر الإستقبال، ومن ذلك اليوم تغيرت صورة الصبي في عين أمه، وبين الأهل والجيران. أيقنت العائلة أن فناناً يشاطرهم السكن في البيت، وحمدت الوالدة ربها أن ولدها لم يصبح نجاراً، أو حداداً، أو صاحب دكان لبيع الفول كما تمنّته أن يكون. أنّبت نفسها على ما فعلت يوم كان صبيها طفلاً، وعلى ما وضعته في طريقه من عوائق أثناء تفتح مواهبه الفنية، ودعت للشيخ الغلاييني بطول العمر "لأنه بدد شكوكها، وأثلج صدرها، وأزال جهنم من درب صغيرها"!
ذات يوم، عهد الشاعر الأديب صلاح الدين اللبابيدي إلى الصبي تصوير بعض الرسوم، وعرّفه إلى أستاذ يعمل في المكتب السلطاني إسمه حبيب سرور، الذي أعجب برسومه ودعاه إلى التردد عليه، وعلّمه بعضاَ من اللغة الإيطالية، وشجعه على السفر إلى إيطاليا للدراسة. التحق الصبي بمدرسة الطليان في بيروت لتعلم الإيطالية، مثابرا على العمل ليلاً ونهاراً، مصوراً الناس العاديين و"وجهاء" المدينة، ومدخراً ما يتقاضاه استعداداً للسفر.
* * *
إيطاليا، إيطاليا، يا بلاد الفن والسحر والجمال، مهد دافنشي ورافائيل وميكال أنجلو. محراب صلاتي في معبد الفن أنت منذ الآن، كعبتي التي سأحج إليها عما قريب. أما أنت يا باريس، ويا مدريد، فيمكنكما أن تستريحا إلى حين. لن أنساكما ما دمت حياً، وسيشهد المستقبل مجيئي، إلى حيث أودعت شيئاً من روحي على أرض لم تطأها قدماي بعد، هناك في قاعات اللوفر والبرادو الفسيحة، حيث تتمايل الأرواح الخالدة مع أجنحة الخيال، وآلهة الفنون معطرة بأنفاس الدهور.
كانت تخالج نفس الصبي الحالم خلجات من هذه الأشواق. شعر أنه منذور للفن، وأن عليه أن يسافر كما سافر جبران، ويخدم بلاده كما خدمها جبران. في ليلة من ليالي الشتاء العاصف، فيما هو يقرأ "الأجنحة المتكسرة" تراءى له طيف مؤلفها فخاطبه في قلبه: لله درّك يا جبران، أخذك الموج إلى بلاد بعيدة، فأكرمتك وهيأت لك ملائكة حارسين من عشاق الفن، فصورت وكتبت وتبوأت عرش الخلود، وقمت بما لم يقم به أحد من بني قومك. أراك لو بقيت في ديارك، لربما أصبحت مكارياً، أو سكيراً كأبيك، أو ولداً عاقاً، أو صياداً يطارد الطيور بين الحقول وفوق الهضاب، أو في أحسن أحوالك، معلماً في مدرسة الضيعة. ولو لم تأخذك أميركا لما كتبت بالإنكليزية وعرفك العالم كله يا جبران، ولا كان بنو جلدتك رأوا رسومك، وقرأوا قصصك الأثيرة الموجعة، التي كتبتها وأنت في بوسطن، عن مرتا البانية، وخليل الكافر، وحنا المجنون. ما أدراني وأدراك يا جبران، ما كان فعل بك رجال الدين لو كتبت تلك القصص وأنت في بشراي، الكهان، الذين تآمروا عليك في الخفاء، وهم يظهرون التقية في العلن، ويكرزون بالبشارة، ويعدون الناس بملكوت "أعد لهم منذ تأسيس العالم"!
* * *
أطل صباح 15 أيلول 1924، فتحركت الباخرة "برازيل" من مرفأ بيروت، في طريقها إلى الإسكندرية ونابولي. على متنها مهاجرون ذاهبون للعمل والإلتحاق بذويهم في المهاجر الأميركية. وحده بين ركبان الباخرة شاب لم يبلغ العشرين ربيعاً، ركب البحر إلى مكان آخر وهدف آخر، إلى بلاد الفن الجميل، لتحقيق حلم رائع في عالم الفن.
كان الفتى في الليلة السابقة قد وجد في بيته رهطاً من النسوة جئن لزيارة أمه فقالت له إحداهن: "أنت ما زلت صغيراً على الترحال يا بني، ولن يجديك السفر إلى بلاد لا تعرفها ولا تعرفك"، فيما بادرته أخرى: "أليس من الأجدى لك أن تصرف ما جمعت من مال على شراء بيت، وأنا وأمك نجد لك بنت حلال تتزوجها؟".
* * *
ابتعدت الباخرة عن بيروت، وشمس أيلول وطيوره المتهادية ترافقها من الجو. كانت المرة الأولى يرى الفتى بيروته "من الخارج". بدت بتضاريسها وبيوتها القرميدية، مثل عروس غسلت شعرها بماء الفضة، وكحلت أجفانها بألوان الفجر، فلم يشعر بأنه أحب المدينة مثلما أحبها في تلك الساعة.
وصلت الباخرة ألى نابولي، فأمضى الفتى فيها يومين استخدم فيها الشوكة والسكين للمرة الأولى في حياته. أكل أطباقاً مختلفة من المعكرونة، وزار المتحف الوطني. في اليوم الثالث ركب قطار الصباح إلى روما. ها هي أحلام الفتى اليافع، القادم من البسطا التحتا تتحقق. ها هو في الطريق إلى المدينة التي طالما حلم بها، المدينة الخالدة كما يدعوها أهلها. ها هو يقترب من روما العظيمة، عاصمة الكثلكة ومهد الفنون، مدينة الحدائق والنوافير، والمتاحف والكنائس والتماثيل والقصور. ها هو القطار يقطع الحقول والدروب والسهوب، وفراشات الأمل تتحرك في صدر الفتى، فتصل إلى قلبه وتهزه هزاً رقيقاً.
لفظ القطار صفيره وآخر نفس من دخانه، فدوّى صوت يعلن أن القطار المقبل من نابولي وصل إلى محطة روما. شعر الفتى بأن قلبه خرج من المحطة، وبدأ يحلق في سماء المدينة وبين ساحاتها وحدائقها. كاد ينسى نفسه وهو يركب التاكسي إلى دار المونسنيور شديد، وكيل البطريركية المارونية في روما، حاملاً إليه رسالة من أخيه في لبنان، وعلباً من الدخان اللبناني الجيد، الذي كانت الجمارك الإيطالية تتشدد في منع دخوله إلى إيطاليا. تفحص المونسنيور علب الدخان، وفي عينيه بريق الفرح، وتنسم من نكهتها رائحة الوطن! فوّض صديقاً له البحث عن مسكن للفتى، فوجدا له غرفة في بيت عائلة إيطالية، قرب الجامعة الملكية للفنون، المعهد الذي سينتسب إليه الفتى بعد ذلك، ويقضي فيه فترة الدراسة الطويلة، وأجمل سنوات عمره.
* * *
في روما انتسب الفتى إلى الأكاديمية الفرنسية ليحضر دروساً إضافية. هناك خفق قلبه للمرة الأولى في حياته. "كانت إيطالية حنطية اللون، فاتنة العيون، ممشوقة القد، ساحرة الملامح، فيها فتنة وفيها حياة". لمس الفتى لديها ميلاً نحوه، ونظرات لم يعهدها من قبل. كاد أن يلبي نداء قلبه، وقلب الصبية الفاتنة، لكنه تراجع بعدما تذكر أمه ووطنه، والغاية التي من أجلها اغترب، ونصيحة المونسنيور شديد له، بأن يسير في روما سيرة حسنة، وقوله له إن روما غير بيروت، مذكّراً إياه بقصة شاب من زحلة، جاء للدراسة في روما، فغرق في مفاتن المدينة وصخبها.
لم يأبه لإغراءات روما وليلها ومفاتنها، واعتكف في صومعته للعمل. سحرته روما بشكل آخر، مبانيها التاريخية العريقة وكنائسها، تماثيل رؤوس أسود فاغرة أفواهها، تلفظ أشعة من السحر المخيف، ساحاتها وما فيها من تماثيل برونزية ورخامية، أحدها يمثل هرقل بين يديه شاب يرمي به في الجحيم، وتماثيل أخرى للعلماء والفنانين والأبطال، مرفوعة بين الأشجار، والساحات والميادين وعلى قارعات الطرق. ها هي باحة "بنيكيو"، بشرفتها وأدراجها المطلة على قباب أكثر من أربعمئة وخمسين كنيسة، مزينة بأجمل ما أخرجه عباقرة الفن الروماني، والقوطي، والباروكي، وفنون عصر النهضة، تدق أجراسها بعد الظهر وعند الغروب. ها هي حاضرة الفاتيكان بأبنيتها التاريخية الجميلة، وحدائقها الغناء، تنهض من بينها معجزة فن العمار، كاتدرائية مار بطرس الشهيرة، التي بناها المهندس العظيم برامنت قبل نحو 500 سنة، وأكملها ميكال أنجلو، وشيد قبتها العظيمة. وها هي حجرات رافائيل حيث لوحة "حريق روما" ولوحة "مدرسة أثينا" الجبارة التي تمثل داراً عظيمة من الطراز اليوناني، تجمع فيها كبار فلاسفة اليونان، مثل سقراط وأفلاطون وأبيقور، وديوجين الجالس في البرميل وفي يديه قنديله الشهير. قاعات أخرى ارتفعت فوق جدرانها مئات اللوحات الثمينة، واحدة تمثل ملاكاً يفك قيود القديس بطرس وهو في سجنه، بينما حارس السجن نائم، وأخرى تمثل قسطنطين، أمبراطور بيزنطيا، في معركة حربية، وقد نزل عليه الإيمان المسيحي، رسمها تلامذة رافائيل.
ها أن الفتى قد فاز بالغفران وأصبحت صفحته نقية! شعر أن بالإمكان اقتراف بعض الذنوب فذهب والمونسنيور شديد إلى قرية قريبة من روما تدعى فراسكاتي مشهورة بالنبيذ المعتق، وتتعهد للبابوات منذ الزمن القديم تقديم أطيب الخمور، فشربا ما شاءت لهما آلهة الخمر أن يشربا، ولم يتوقف الفتى إلا ساعة شعر أن الطاولة بدأت تعلو من أمامه!
* * *
إنه العام 1926. كانت روما تستعد للبيينالي العالمي للفنون، فتحقق للفتى حمله الذي طالما راوده وهو على مقاعد الأكاديمية. قبلت اللجنة المسؤولة عن المعرض اسمه، وعرضت ثلاثاً من لوحاته، إلى جانب أعمال أهم فناني الغرب. أخذت الصحف الإيطالية تتحدث عن فنان شرقي موهوب من لبنان إسمه مصطفى فروكي.
انتهى العام وبدأ عام جديد. أنهى الشاب السنة الأخيرة من دراسته ونجح. طلب إليه أستاذه الفخور به أن يبقى في روما وأن يعملا معاً. أجابه أن لديه رسالة فنية يريد أن ينشرها في بلاده وبين أبناء قومه. حان وقت العودة إلى الوطن فأمضى الأيام الأخيرة مودعاً أساتذته ورفاقه، ومتجولاً في شوارع روما وحدائقها، كمن يملأ صدره بنفحة أخيرة من هواء مدينة عشقها.
ثارت في نفسه أشواق لبلاده، فاستسلم لمقعد في حديقة وراح يكتب: "كم أتمنى لو كان لبلادي بعض ما أشاهد في روما. لقد أنعمت الطبيعة علينا بقسط عظيم من الجمال والثروة، لكن أهلي لاهون بالألقاب، يتنازعون في الأديان والمعتقدات، وينتحرون في الدنيا... فيا للجهالة، ويا للغباوة، ويا لسوء المصير"!

No comments:

Post a Comment