Translate

Friday, November 14, 2014

جون عصفور.. نبع روى وما ارتوى

نمشي على ما يقدّر الله والكاتبو ربّك يصير


كنا حفنة من الأصدقاء مع عائلته أمام نعشه ولم نكن كل من غرف من نبع أنضبه باكراً مرض لا يرحم. منا من غرف من واسع معرفته بالأدب الإنكليزي الذي درّسه في الجامعة. منا من غرف من عميق معرفته بالشعر العربي الذي كتب فيه بالانكليزية دراسة وأنطولوجيا أسماها «حريق الكلمات»، وقد ترجم فيها أكثر من مئة قصيدة لشعراء عرب معاصرين. منا من غرف من حسه الأدبي ومعرفته بالرواية وقد رافقه جون منذ نعومة أظفاره الأدبية وشجعه على متابعة الكتابة والنشر حادساً عنده «الراوي» العالمي الذي صاره في ما بعد. منا من ترجم له جون عصفور من الفرنسية إلى الإنكليزية وترجم لجون بالاتجاه المعاكس. منا من غرف من جرأته وحماسته في الدفاع عن العرب في كندا داخل دوائر الحكومة الضيقة كما في المحافل وعلى الشاشات، وقد ترأس لسنوات الاتحاد العربي الكندي وعينته حكومة كندا على رأس لجنة لدراسة علاقاتها بالمواطنين من أصل عربي. وكلنا، من دون استثناء، غرفنا منه طيبة تخطى بها مصاعب وخيانات، طيبة تنضح من صوته ومن كلامه ومن ضحكته الهادرة والهادئة في آن واحد.

[[[

لا تُنسى يا صديقي جون تلك اللحظات قبل يومين من رحيلك حين تحادثنا عن الرحابنة وفيروز ومن كان معهم، فيلمون ونصري وهدى وغيرهم. لم نتحادث يوماً إلا انتهينا إليهم وقد شرحت لي مراراً ومطوّلاً ثورتهم الموسيقية وعدم تقيدهم بقواعد الموسيقى العربية التقليدية، مما كان ليعطيهم صفراً في الكونسرفتوار. كنا وحدنا في غرفتك في المستشفى وغنينا معاً، أنا بصوت أخْفضتُه كي لا يُسمع في رواق المستشفى، وأنت بصوت أخْفَضَه دنو النهاية. إيه يا عبدو احكي يا عبدو الله محيّي عسكرنا. قلتَ لي بعدها: هذه من الملاحم. عشية رحيلك عزفتَ على غيتار استعرتَه من عازفة في المستشفى موسيقى أغنية «أعطني الناي وغنّ» ولحناً آخر. أُعجِبَتْ باللحنين ووعدَتها بتلقينها إياهما في زيارتها المقبلة بعد ثلاثة أيام. لن تتعلم العازفة منكَ سوى أن الموسيقى الأجمل هي ما يعزف الإنسان في يومه الأخير، ولن تعرف أن كلام اللحن الآخر يقول: نمشي على ما يقدّر الله والكاتبو ربّك يصير.
لا تُنسى يا صديقي أحاديثنا الطويلة عن الشعر، عن الماغوط الذي صادقتَه وجعلتَ من عنوان قصيدته عن «حريق الكلمات» في لبنان عنواناً لكتابك عن الشعر العربي، وعن أنسي الحاج المدهش في اختياره للكلمات، والذي اعتبرتَ نثره شعراً أجمل من شعره، وعما أسرّ لك أدونيس حين أتى إلى مونتريال، وعن سعدي يوسف الذي أصرّ في الربيع الماضي عندما دُعي إلى جامعة ماك غيل أن تكون محاوره. لا يُنسى تكريمك في الجامعة نفسها الذي حصل، صدفة، في يوم عيد ميلادك الأخير.
كرّمَتكَ كندا يا صديقي، بكل تأكيد أقل بكثير مما تستحق. حكومة كيبيك والحكومة الفيديرالية كرّمتاك، كلّ على طريقتها. احتفلت بك جامعات ومؤسسات ثقافية من مونتريال حتى فانكوفر. محطات تلفزيونية وإذاعية اعتادت استضافتك. شُغِف شعراء كندا وأدباؤها بشعرك الذي كتبته كله بالانكليزية، من ديوانك الأول «نيسان» حتى الأخير والأحبّ إليك «عصبة العينين»، مروراً بـ «أرض الورود والبنادق» و«سمكة من أعلى السطح»، وقد تُرجم الأخيران إلى العربية كما «حريق الكلمات». لم يُضِرك وأضارنا أن ما من ممثل رسمي للحكومة اللبنانية اكترث بما أنجزته. اعتدنا هنا أن نرى دبلوماسيي لبنان يهرعون حين وصولهم إلى كندا للتعرف، من بين كل الكنديين من أصل لبناني، على رجال الدين وأصحاب المال فقط، واسترضائهم. لم تَأبه لجهلهم يا صديقي إذ اعتبرتَ أنهم بما يفعلونه يمثلون دولتهم وسياسييها خير تمثيل.
غريب أمر العرب. حتى عندما خصصت لك فضائية عربية حلقة كاملة آلمك أنها لم تر فيك إلا بالكاد غير إعاقتك البصرية، فكان معظم الحلقة عن تدبيرك لأمورك الحياتية من دون مساعدة. كان يؤلمك ألا يرى البعض فيك سوى غياب البصر، وألا يذكروك إلا وذكروا قصة تلك القنبلة من مخلفات أحداث 1958.
[[[
كنا حفنة من الأصدقاء مع عائلته، نقف على ورق خريف مونتريال الكثيف وقد غطّى الأرض. لم نر تراباً. كان الكاهن يردد طقوسه آلياً، غير آبه لدموع وشهقات ولوجوه كالحة ليست بحاجة إلى من يشرح لها في لحظة كهذه أنها أمام تراب يعود إلى التراب. ليس في هذه العبارة ما يعزّي. كان النعش يغرق في الأرض مُغرقاً معه بعضاً منا. لم يعزّنا سوى يقيننا أن في كل منا شيئاً من جون سيبقى إلى أن نتناثر أوراقاً صفراء على تراب إليه تعود، كما يقول الكاهن.

No comments:

Post a Comment