Translate

Tuesday, April 7, 2015

جميل...

الدكتور جميل زغيب.
الدكتور جميل زغيب.
المصدر: "النهار"
يوم أمس، إحتفل الصادقون، إن صدقوا، بكذبة الأوّل من نيسان. كذبة تأبى أن تكون يتيمة، فإذا بها تضرب على مدار السنة حقيقةً مأزومة، حتّى يكاد يتحوّل أوّل الشهر الرابع من السنة يومًا للصدق النادر غير المعترف به عالميًّا!
أمام كذبة الحياة الكبرى، المتخذة أحيانًا أشكالاً مجتمعية مضحكة، ثمّة حقيقة مذهلة دعاني إليها، عشيّة الأول من نيسان – للمصادفة- إنسانٌ بلغ كلامه فيّ مطارح لم يسلكها ذهني سابقًا، فتلقّنت درسًا في الأولويات. الدكتور جميل زغيب، الطبيب الذي أقعد المرض جسده، لا عقله، حملني إلى حقيقة التمييز بين الروح وقدراتها وبين الجسد ومحدوديته. تمييز يصلح في الدولة أيضًا، بين روح جوهرها ورسالتها ومعناها وبين جسدها المترهّل، المعطّل الدور والفعالية والمؤدّى...
طبيب شاب، واعد، نشيط، كفؤ، مثله مثل لبنانيّين ولبنانيّات كثر، حلم وناضل وحقّق وأنجز... إلى أن أصابه مرض التصلّب الجانبي الضموري (ALS)، وهو مرض يصيب الخلايا العصبية الحركية في الدماغ والحبل الشوكي ويؤدي إلى تنكّس العضلات، حتى يصبح المريض غير قادر على الحراك كليًّا. هذا في الجسد. أما في عقله وروحه، فقد أبى الطبيب جميل زغيب أن يستسلم، فإذا به يكتب، بعينيه كأنهما قلم (مستفيدًا من تقدّم تكنولوجي حديث)، تسعة كتب في سنتين، وإذا به يستمرّ يخبر قصّة غلبة الروح الحرّة على الجسد المقيّد.
قصّة جميل زغيب قصّتنا جميعًا، إنما هو تجرّأ فأخبرها، أما نحن فكذبنا وحجبناها... نحن ومنظومة الدولة عندنا...
لقد أُصبنا، نحن ودولتنا، بشلل تصاعديّ في الحركة، ضرب عضلاتنا التي استبدلنا بها عقلنا على حال حرب وخراب. ضرب أعصابنا التي لم تعد تلبّي أوامر العقل وإرادته، فذهبت إلى الغريزة حتى انطفأت. بقي القلب يخفق مقاومًا. يضخّ الدم في شرايين دولتنا اليابسة...
الفرق بين جميل زغيب ومنظومة الدولة يشبه إلى حد كبير الفرق بين النور والظلمة.
نحن ننظر ولا نرى. نسمع ولا نصغي. نمشي ولا نتقدّم. يعلو صوتنا ولا يؤدّي. شللنا في الفعالية والنتيجة، لا في "عدّة الشغل" المتوافرة.
أما على سرير المرض العضال، فجميل ينظر ويكتب، بقلبه وبكلّ ما أوتي من حواس. على سريره، يصغي إلى دقّات قلب محبّيه، هلا وسيرج وأليسيو وأندريا. يمشي على طريق الرب مستسلمًا لمشيئته، كأنه، في ما هو عليه، مرسال. صوته يصدح في سكوته، كأنه يقول إن الروح الصلبة، القوية، الطيّبة، هي "عدّة الشغل" الحقيقية وبها يغلب الجمود.
قصّته، حكاية دولتنا وناسنا. كما جميل، نحن شعب يحمل في جيناته إرادةً وتصميمًا. ربما أصاب الشلل منّا مضربًا، واستعصت على أطباء السياسة أمراضنا. ربما تعب الطبّ من تمدّد الشلل إلى مؤسّساتنا التي بات دورها معطّلاً... أما الروح وأما الجوهر وأما الرسالة وأما معنى لبنان الحضاري في مشرقه وفي العالم، فنابض ومستمرّ يكتب بعيون أطفاله وشبابه قصّة التغلّب على المرض وقصّة ابتكار المخارج وقصّة استنساخ جميل زغيب في إرادته وتصميمه وصلابة إيمانه. هو الحرّ، لا نحن. هو القادر، هو المُنجز، هو الذي يذكّر بالشاعر إيليا أبو ماضي يقول "قل للذي أحصى السنين مفاخرًا يا صاح ليس السرّ في السنوات، لكنه في المرء كيف يعيشها في يقظة أم في عميق سبات"...

No comments:

Post a Comment