Translate

Saturday, April 18, 2015

شعر - ينبغي للموتى أن يعودوا الى الحياة

لوحة لعادل قديح.
لوحة لعادل قديح.
يحرق القتل لساني؛ تشحب صفات القسوة. حشرات الضوء تئنّ. حناجرُ مهانةٌ تطفو. الأمل كالجنون قفص اليائسين. في كل مكان تصرخ أكاذيب التسامح، في الجراح البنفسجية للغيوم، يتألم الضوء كغبار مصفوع على أظفار ملكات الجمال، يلمع ويخنق كحريق تلتهم فيه الدناءة وجوه الألم.
* * *
الكلمة تسقط؛ منبوذة عن يد الصفاء خائبة، في شقاء الجلاء يجرّ دموعَ الشرف إلى عيون مفقوءة، وفي حليب حجارة برتقالية لم تعرف غير رماد غيوم مدمّرة.
* * *
الموتى يسطون على المآقي، في هبوب المساء جافاً كتكسّرِ شالٍ من الجبسين، في المزق المتيبسة كأعقاب السجائر المبصوقة على قشور بطاطا عفنة، وفي المآذن خربة مداسة بالعويل، في شفاه العفة الناقمة، في مصافحات المودة الهاربة، وفي احتراق علب البنزين، يعرج الموت هاذياً في التواءات العظام، وفي حطام الأدمغة.
* * *
أتلفَنا الرعبُ، ابتلعتْنا أمعاءُ الفقهاء وعضلات مهرّبي الآثار والمخدرات، أنهكَتْنا الوشايات، والرشاوى التي ألِفْناها كالخوف والعهر، حطّمتْ عيونَ أطفالنا! والتلفزيون يفجر ليله أربعاً وعشرين ساعة، والمذيعات بمؤخراتهن الثقيلة، يلعقن مساحيق النفط البلهاء.
* * *
هل لك قلبٌ كحبّة لوز؟! أكاد أموت من الخجل. إنني رغم كل شيء أطلب ارتعاشَ قلبك.
* * *
سينقذنا الهيامُ الصعب بسلحفاة صغيرة؛ ملويةً حماقاتِ الرملِ ومياهَ السماء، ولطالما كانت تعاسة البشر قوة شرسة كالجوع. الكلمات ليست الكلمات.
* * *
على الضحك المتلف كذلك أن يمضي ويجلس قرب المستودعات البعيدة، حيث الأسلحة تباع كالخردوات، والريح تجلد وجوه فتيان صغار. الهواتف النقالة والسوتيانات تتمزق بين الأفخاذ هناك، على الحديد أن يخرج من القنابل كالريش اللامع للسنونوات، على الحديد أن يتذكر السوادَ الذي يعيده إلى باطن الأرض، هناك حيث ألف رحم تلتهب، وكلمة واحدة تعلو كصفير قطار ثقيل زاحفاً من "محطة القدم" في شام شريف إلى فجر قامشلو القاسي؛ هناك ليتلاقى المرضى أخيراً في مناوبات الطرد الذي لم يمنحهم سوى الخزي.
* * *
على الموتى أن يعودوا إلى الحياة، وعلى الحياة أن تتذكر الموت كل يوم، مثل صلاة متوحشة، مثل حوانيت يديرها شبّان قساة القلوب، حيث يبتكر الكذبُ ابتساماتِ المرض الدائمة، وحيث لا طرقَ ليصرخوا ولا أطباء. على المحامين الأثرياء، مَن حوّل العدالة إلى بغاء مدروس، أن يتعرّوا مثل فتيات الستريبتيز. على القضاة النوم جنب المرضى المخدوعين، ليفشل التضامن الإجباري، مرةً واحدة لتُرى الجثث كلها داخل عين الربّ الشاملة.
* * *
على بائعات العلكة في حدائق دمشق أن يهرعن إلى دير الراهبات، وعلى الراهبات الإسراع في تسلّق سور البرلمان، وعلى البرلمان أن يستقبل الفرق الوطنية الرائعة، وعلى الملاكمين الأوائل أن يجلسوا على قبضاتهم في غرف التجارة المحصنة كأثداء العدالة والتنمية لئلا يضربوا أحداً لئلا يضربهم أحد، ولئلا يحرق تلاميذ المدارس خشب المقاعد في وجوه معلميهم؛ لاهثين من المخابز إلى المخافر مثل معتوهين.
* * *
على المدارس أن تبقى في المنازل ولا تخرج منها أبداً، وعلى الوزارات إلغاء الحدود بين المرتشين ومنظّمي المعارض، وينبغي ربط شبكات الكهرباء الجديدة بأفخاذ النساء المحافظات ومعاصم رجال الدين، وعلى الأنهار أن تبتلع الأشجار والحصى ومعاصر الزيتون في حلب، وعلى الأشجار أن تعلّم السيارات الرديئة كيف يذوب الصمت كالشمع على صخور منحدرات الأحراج الخطرة، وعلى العازفين الضجرين، مبتسمين كآلهة مومياء محنطة، البقاء معلّقين بين الأوتار؛ حادة متشابكة لامعة.
* * *
ماذا يقول لكَ ثديكَ يا أرمل النهار، وبِمَ تخبركِ خصلات شعركِ أيتها المرأة النفحة العابرة، لِمَ الغيوم رديئة كالبرد يلتصق بالرموش، وعما يمكن الشفاه أن تتكلم وليس داخل الصدور غير رماد النفور، وكيف هي الحانات الجديدة في باب توما المختنقة، وماذا تفعل الصديقة البيضاء كالحليب في هيئة تقديس المنافسة اللعينة ومكافحة ومنع الاحتكار، ولِمَ الأضواء الخضراء نفسها تلمع كالبصاق على أوكازيون لجنة الضرائب والرسوم، ومصابيح المنارات والمساجد التي غشّها متعهدون كما تغشّ البحار بالنفط والخمور بالمياه.
* * *
لِمَ تشبه الشوارع صرخات عزلة محطمة؟ وسائقو الأجرة العامة يكرهون رجال الشرطة، والرجال المحليون لا يطيقون الأجانب ذوي البناطيل القصيرة السائحة كالقمل تحت مخدات الجنود الوسخة.
* * *
المتحف الحربي مغلق والمتحف الوطني لا يرى قذارة بردى فوق قلبه، فيما القطط تتلامس بألسنتها الوردية الطويلة الخشنة، والحمامات تواصل عناقاتها الفموية الدافئة الخفيفة، وتمدّها من دون خجل مثلما يمدّ القانون ذراعه الثقيلة فوق دار الأيتام والجمعيات الخيرية التي تثير القيء.
* * *
إذاً، على ورود المالكي المدللة أن تُرى مثل سرب الجائعين في مزابل البرامكة. إذاً، على الموتى أن يعودوا إلى الحياة، وعلى الأرصفة التي حملت خطواتهم، أن تتكلم داخل قلوبهم، مثلما يتكلم جبل المساء مع الضحايا المفقودين تحت أكوام الثلج، أو عجوز شهوانية رائعة مع راقصة ملهى تائهة، فيما تتمزق حبوب القمح تحت سلاسل الدبابات، وأشجار الزيتون لم تكذب على أحد، ولم تجد الكلاب أي حاجة لتختلط مع البشر، ومع ذلك على الكلاب أن ترقص مع الأطفال، وعلى الثلج وحيداً صافياً أن يتحمل أكاذيب العافية والسماء.
* * *
أبتلع السماء المريضة، أبتلعها كل يوم، لكن هل من أحد يقبل يحيا مثل سمكة طائرة متشنجة، مثل مَن يفكر في الغد، فيما أصابعه تائهة في الوعود اللزجة كلاصقات الجروح؟ علينا من جديد أن نتعلم كيف لا نثق بالكتب المشهورة، أن ننسى، لا لأجل الغفران لأنه شاحب، بل لأن الكلمات أقل من أصواتها، ولأن الصداقة أعمق من خلافات منظّري الشعر وحكماء النقد الدولي، والحب أفضل من النجاح الثوري المزدحم على كل الأفواه، ولأن السلام ليس السعادة ولا النجاح، ولأن التفكير في المستقبل مخيف، علبة مليئة بالهراء.
* * *
الآن، الآن من دون شك، الآن على الفور. على الجنود أن يزرعوا القطن كي يحموا أمهاتهم البعيدات من فصول البرد المقبلة، وربما أن يتعلموا حياكة قمصان الكتان الخفيفة، على الأبقار أن تسير في الأوتوستراد العريض الملوث بسفارات الكرب الأممي، حيث سارت جداتها منذ مئة سنة ماضية، وعلى البنوك أن تفتح الخزائن للريح الآتية، لأن الذهب في الهواء فقط، في الإشارات اللطيفة فقط، في رسغ الطفلة، وفي منديل الأم، ولأن الأنفاس وحدها تدرك عبء الزمن حيث لا أرقام الإحصاءات تجدي، لا ومهرجانات دبي، ولا جسور اسطنبول، ولا دعايات الشامبو، ولا صقيع مسابقات رأس السنة.
* * *
لأن النقود دائماً الجحيم المعبودة، والفقر ليس سوى شكل مترنح للوجود. الأشياء خالدة بسبب الصمت والزوال، والموسيقى تنتصر في النهاية مثل النهاية نفسها، من يتكلم إلى الأشجار وحده يدرك بداية العالم.
* * *
أما عن الضوء، إذا كان هناك أحد يحبه، فإنه موجود في أزهار السفوح النائية وكاراجات ملاعب التنس. ويمكن لمسه دقيقاً ومرهفاً داخل قلوب المجانين، كما إنه لا مرئي في غرف يسكنها وحيدون، لأن مَن هو بلا عون من أحد يشبه مَن تكاثر حوله معجبون كذّابون.
* * *
الجبال تموج في ركبتي، دمعة تؤلم عيني، الكلمات ترنّ في دمي، والسجون داخل قلبي، فكيف أصرخ ضدها؟! الموسيقى في كل مكان مثل قدّاس جنازة، في الخشب، في ظلال الستائر، في بلّور النوافذ المغلقة، في المنافض الوسخة، وكؤوس اللبن الفارغة، في مقصّات الحلاّقين اللامبالين بمراهقات خائفات، في ثياب الأطفال السنوية، في أوراق العشب البلاستيكي، في الكتب المتلفة والقصائد المنسية، في مقاعد الشهوة الضيقة، في ساحات الخوف، وفي المطارات الموبوءة بالسيّاح، في نهم أحواض النساء، وفي انطفاء الابتسامات المترددة.
* * *
أأتوسل إليكَ مثل جروٍ لئلا تتلف هذا المساء الرقيق الغائم، أرجوكَ لا تتلفه بالضحك ولا الشكوى ولا الصراخ. فقط دعني أنظر، دعني أرى بهاءَ أذيال الغيوم. يا أختي، يا أخي، يا صديقتي، يا مَن تكونين، أو مَن تحبّي أن تكوني، في هذا المساء الرطب الغائم الناعس، كلنا نعلم أن العقارات غالية جداً، وأننا لا نجرؤ لمسها ولا الاقتراب كما لو كانت ناراً شرسة. لكن، ألا ترون تلك السيدة في الظلّ كيف تعقص شعرها بمودة كبيرة!
* * *
أنظرْ إلى العمّال الشبّان كيف يشطفون رخام دار الأوبرا، أنظرْ إلى تلك السيدة التي تنحني بعمق كقدّيسة تصلّي، وهي تمسح الغبار عن جلود الكراسي الثقيلة كتماثيل عملاقة. أنظرْ أرجوك، أو دعني أنظر وحدي أشباح الأمسية الرقيقة الغائمة ترتعش كحيوان جريح بين عينَي سكّير، متعبتين، كقطعة ضوء تتلاشى ثقيلة كلحظة ندم، كوهم من أوهام حمّى الربيع.
* * *
حسناً، حسناً. كيف يمكنك قول ذلك كل يوم كما لو كان فمك آلة أو صدى بلا فم. أتعلمون كيف تبتعد المدن عنا كأشجار مريضة وكيف قلب واحد خائف يقترب بعنف ذكريات بشعة ومهيمنة؟! نحن نعلم، أو ربما نعتقد أننا جادّون ونفهم، كيف يزداد حجم التعامل النقدي، وتكثر البنوك الأنيقة المحصنة بحرّاس المومياء ومعهم في الشارع نفسه نرى الجوع الجنسي الصارخ وفقر النظرات، النظرات التي تُهان وهي كلمات مختنقة في العيون، كذلك تكثر القنوات الفضائية وأحكام العدل تكثر عبيد المهارات التقنية.
* * *
نرى كثيراً، كثيراً جداً، ثمة أنباء جدية عن جلسات التحليل النفسي في دمشق، ودروس حريرية في الرقص المعاصر والرشاقة وإزالة الشعر الزائد وبرامج تنمية الريف الزائفة، ثمة الذكاء الجديد المخملي اللامبالي؛ يقدَّم إلينا لامعاً مع إعلانات علب الشوكولاته السويسرية، لكننا عيون مرهقة بسبب الخوف والغلاء والشك والعزلة، قلوبنا ممتلئة بصمغ سامّ، نرى كثيراً ولا نفكر، لا نريد أن نتذكر أو نندم أو نعترف. نفضل النسيان وتبقى الطاولات التي تبقعها أذرعنا الطيبة فارغة تحت نظرات شبحية زرقاء.
* * *
سأجدُ المرأة التي أحبُّ مريرةً داخل فمي جافةً وممتلئةً كحبة كستناء ضخمة، مريضة ومسحورة بالألوان التي تشعل النار في بطنها الليّن المرح. سأعثر عليها قرب حاوية معدنية خضراء قذرة عالية الحواف ملوية، أضع كفّي في يدها ذات الأصابع القصيرة، أو أقرصها على الملأ لأغيظ صاحب المكتب العقاري الملتحي سين دال باء، والأفق يأسرنا بنظرة طويلة واحدة لا تنتهي.
* * *
كل شيء يمرّ أمامي مسرعاً صامتاً مذعوراً، أصابعي ساقطة كأوراق الأشجار مجعدة يابسة، وفمي مشتاق لليلة هادرة ساخنة بلا نهار، ليلة لها أجنحة بيضاء. عين واحدة لا تكفي أبداً. أودّ لو أملك أربع عيون متألقة، وفي قرى البؤس أرى عشرات الأبقار تولد بلا أيّ عون، وعلى صفحة السماء حيث المعرفة كالتهريج، قرود مقدسة تتقافز، وفي شارع من عامودا العاصمة الفطنة كلاب صغيرة تنبح برفقة سيدات يقذفن نوى الكرز على جدران الربّ، فيما البنت المجنونة بسبب كدمات السوق تنسى وحيدة في السجن، كما لو كانت النساء في نزهة لا مبالية بأيّ شيء على جبل ابتلع صرخات الجنود.
* * *
أوه...، أيتها المتع الخانعة: لم يمرض أحدٌ بعدُ مثلما مرتعشة تمرض رئاتُ النجوم بمياه الزنابق، لم يتكلم أحد مرة، بقدميه مثلما تتبادل السنواتُ جليدَ الصمت، ضربات البرد اللعين، وليلَ الأسى.

No comments:

Post a Comment