صباح وصورتها الأخيرة: هل هزَمَت الشيخوخة وهْجَ الصِبا؟
المصدر: "النهار"
27 تشرين الثاني 2014 الساعة 19:23
زادَ الموت شحرورة لبنان صفاء، وبدَّدت ارتقاء َ الروح الى
الأعلى هزيمة الجسد بفعل العُمر. صباح في الذاكرة وقْعٌ من نقيضين: الصِبا
الوهّاج وتكدُّس سنواتٍ ثقيلة على بدنٍ نخَرَه التعب. صورتها كثيرٌ من
اندفاعٍ بلغ الذروة، وبعضٌ من انكماشٍ هو مصير المرء المُنهَك. أيّ
الصورتين أشدّ سطوةً على الأخرى: صباح في صِباها تُغرِّد وتَجذُب وتنشر
الفرح، أم في شيخوختها حيث عجْزُ البدن وتوق النفس الى عليائها؟ يكشف موتها
ازدحام الصورتين معاً، إذ تتنافسان على "الفوز" بها، وتسعيان الى أن تكون
إحداهما الصورة الأولى التي تتراءى فور ذِكْرها. في كلتيهما، ترفرف الصبوحة
ككنارٍ لا يُنتَزع منه صَفَار ريشه، من الفتوّة الدفّاقة، تِباعاً الى
الكهولة الصادمة خارج عزلتها.
يُفسِّر ذلك انكباب الجمهور على
استحضار علاقة طيّبة بصباح وإبراز فائق الودّ حيالها، وقد يكون هو نفسه
الذي استجاب لشائعات موتها، وحاك حيالها النكات وأصناف الدعابة. ليست
الفنانات عاصيات على الانتهاء، أجسادهن أيضاً تتقهقر والنبض يُقهَر. عاشت
صباح صخباً فرَض صعوبة أن تُقارَن، وظلّت حضوراً في ذاته، أكثر منه المتعلق
بنوعية المادة الفنية المُقدَّمة المتقلِّبة بين وزنٍ وخفّة. صباح المرأة
لها حيّزٌ على حِدة. هي اللؤلؤة زمن السينما المصرية، وفرط الأناقة والترف
في حقبةٍ من ذهب، وهي في سنواتها الأخيرة ذبول الكِبر وأسى الشيخوخة.
تواجه
صباح موتها من خلال الصورتين معاً، وهما مرحلتان من عمرٍ حافل بالصور. لم
تُلزِم الإعلام بصورة واحدة، بل أنّ صوراً تسرّبت أظهرتها تُكابد دولاب
الزمن وجبروت الطبيعة. وراحت صورتها على الفراش، من شدّة قسوتها، تزيح
صوراً أخرى تُبيِّن الشحرورة نَضِرة. لم يستطع الموت إزاحة أي منهما، فبعضٌ
مِن منبره استعادها شابة، يوم كان الظنّ أنّ المرء البالغ حداً من الجمال
والعظمة يستحيل أن يُقهَر، وبعضٌ شاء صورتها في الفراش، ضعيفة هشّة مؤلِمة.
تخيف الشيخوخة الفارضة على الإنسان استبدادها، وتُصيِّر الموت انعتاقاً
مشتهى. كأنّ صباح أرادت بموتها موت صورتها الأخيرة والإبقاء فقط على
بسمتها، لكنّ ذلك، هو الآخر، أمنية لم تتحقق. موت صباح هو موت الشيخوخة في
الصورة، وشراهة تلقّف الشائعة. لن يُقال بعد اليوم إنّ الشحرورة ماتت، ولن
تتبيّن أنها أكذوبة. لن تُسرَّب صورٌ تتعمّد الإشارة الى انكساراتها. لن
تكون مادة للتفنّن في المُزاح وتوطيد صلة الجمهور بالثرثرة. هي الآن ميتة.
منذ ما قبل الصورة المُظهِرة إياها عاجزة، وصباح الجسد تختبر موتها.
عاشت أخيراً كثافة العمر حين يغدو معضلة، كأنّ الموت حلّ منذ أن أمسى البدن
مُقعَداً في فراشه، آيلاً الى لاإدراك وظائفه وضبط أحواله. ما حدث لحظة
إعلان موت صباح هو وضع حدّ نهائي لاحتفاظها بظروف موتها، وجعله مُتداوَلاً
في الإطار العام، مُلك الجميع، مَن أحبها ومَن حسدها ومَن استغلّ
اخفاقاتها. الفارق أنّ الموت الذي خصّ صباح وحدها ثَقُلَت لحظاته وتغلغلت
أوجاعه، أما موتها الذي انتقل الى الجميع فمرّ عليها لطيفاً آثر نهاية أخرى
لعذاباتها. استدرجها الى السكينة، حيث آن للبدن ألا يكون موضوعاً للشفقة،
وللوجه أن يبتسم ابتسامته الأخيرة.
No comments:
Post a Comment